2008/07/27

صحافة الفنادق




مقال الـ "نيويورك تايمز" عن العراق لهذا اليوم يتطرق لتشرذم عصابات جيش المهدي .. هناك في المقال وصف مفصل لسرقات وجرائم سرسرية جيش المهدي في مدينة الثورة والشعلة والطوبجي .. وهو يعطي لمحات من "جمهورية الطالبان الشيعية" بقيادة "ملا تكتيك" .. بالمناسبة مقال النيويورك تايمز لايتطرق لـ "ملا تكتيك" ودوره في التهدئة مع "الشيطان الاكبر" بناء على اوامر "السرداب الاعلى" .. يقال انه عاكف على دراسة "فقه النكاح" .. لا حدود لنفاق العمامة .

كاتبة مقال النيويورك تايمز، وبسذاجة "صحافة الفنادق" المعهودة ، تُهيكل المقال لكي تقود القارئ الى استنتاج جاهز مسبقا .. استنتاج يردد اليوم على شكل كليشة ينبح بها الاعلام المرتبط بالاحتلال وفحواها تحسن الاداء الحكومي وبالتالي الوضع الامني في العراق .. المقال يقول لنا ان جيش المهدي قد اصبح ضعيفا ..وان احدى علامات هذا الضعف هو ان العشائر الشيعية بدأت تلاحق افراد جيش المهدي ممن قتلوا احد أبناءها لكي تفرض عليهم التعويض العشائري .. ويأتي الاستنتاج النهائي ليربط سببيا بين قوة الحكومة وضعف جيش المهدي .

ولكن الدليل الذي يقدمة المقال على ضعف جيش المهدي (وهو صعود نفوذ العشائر الى الحد الذي يجعلها تلاحق عصابات جيش المهدي وتفرض عليها دفع التعويضات ) هو بحد ذاته دليلا ايضا على ضعف الحكومة .. ان يلجأ الناس الى العشائر من اجل محاسبة القتلة والمجرمين هو أفضل دليل على الضعف الاداري للحكومة .. فجوهر الحكومة هو سيطرتها على وسائل العنف التي تمكنها من فرض القانون .. وعندما تقوم العشيرة بفرض القانون فهي تفضح هشاشة الحكومة .

حنا بطاطو عندما يتطرق للولاءات المتعددة للمجتمع العراقي قبل تأسيس الدولة العراقية الحديثة يورد ما يقوله احد النواب العراقيين في البرلمان العثماني في عام 1910 : " ان تحتمي بعشيرة هو آمن الف مرة من الاعتماد على الحكومة ، وذلك لان الحكومة (العثمانية) لاتقوم باداء واجبها في الردع، بينما العشيرة ، ومهما كان ضعفها، تهب للدفاع عن احد اعضاءها حالما تسمع بظلم وقع عليه " .. وهنا نص بطاطو :


“To depend on the tribe” wrote in 1910 one of Baghdad’s deputies to the Ottoman parliament. “is a thousand times safer than depending on the government, for whereas the latter defers or neglects repression, the tribe, no matter how feeble it may be, as soon as it learns that an injustice has been committed against one of its members readies itself to exact vengeance on his behalf”. BATATU,The Old Social Classes… p.21

النائب العراقي يصف هنا وعلى طريقته جدلية الدولة والعشيرة .. عندما تضعف الدولة تقوى العشيرة وعندما تقوى الدولة تضعف العشيرة .. وهو يقول لنا ان الناس كانوا يلجئون لعشائرهم من اجل ان تحميهم او تطالب لهم بحقوقهم لأنهم كانوا يعتبرون الحكومة ضعيفة وتعجز عن حمايتهم .. وعندما يلجأ الناس اليوم الى عشائرهم فلأنهم يعتقدون ان الحكومة غير قادرة على حماية نفسها .. فمن اين لها القدرة على حمايتهم.

العراقي اليوم مثلا لايذهب الى مراكز الشرطة لانه يعرف انها اوكار للمجرمين والحرامية ..ولانه يعرف ان كثير من جرائم الخطف من اجل المال تمت بمساعدة الشرطة.. وهذا ايضا ما يدفع الناس لِلجوء الى عشائرهم .. وعندما تقوم العشائر اليوم بملاحقة عصابات جيش المهدي فهي تفضح هذا الضعف الاداري لحكومة المنطقة الخضراء .. ليس هناك من دليل اقوى على ضعف حكومة ما من عدم قدرتها على فرض القانون .. وصحافة الفنادق تقول لنا ان الحكومة قوية .

صحافة الفنادق تخون هنا من جديد قرِاءها في الكوكب الامريكي حيث تستهلك الجرائد بالكيفية التي تستهلك بها الكوكاكولا .. هي قد باعتهم ذات يوم حرب سهلة ..هي اليوم تبيعهم انتصار اسهل .. صحافة الفنادق تريد ان تخفي حقيقة واضحة كالشمس في المقبرة الجماعية التي "يحرسها" اليانكي : العراق الامريكي هو فشل سياسي قبل ان يكون امني .. وحكومة المنطقة الخضراء لن تصمد اسبوع واحد بدون المئة والستين الف "بسطال" امريكي وعشرات الالاف من"القنادر" المرتزقة.

2008/07/15

ثقافة الحبال .. و"حبال" الثقافة

نشر عبد الاله الصائغ يوم امس مقال عن "ثورة/ انقلاب" ١٤ تموز ١٩٥٨ ..المختصون بالتاريخ يميزون بين مفهومي الانقلاب والثورة وفقا لمعايير محددة .. كالطريقة التي يتم فيها التغيير السياسي، موقع القائمين بـ "الانقلاب" في حقل الصراع الاجتماعي او العدد المشارك في التغيير او حجم التغييرالذي يحدثه النظام الجديد.. مثلا، بعض المؤرخين يعتبرون الانقلاب ثورة اذا ما احدث تغييرا جوهريا في التنظيم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي .. ولكن الصائغ في مقاله غير معني بهذه الامور.. فحُكمه قيمّي قائم على معيار الخير والشر المسترخي على ثنائية ملائكة وشياطين ..لذلك نستطيع ان نقول ان قراءته هي قراءة "شعرية" للتاريخ (بالمعنى الشخابيطي لمفردة شعرية).. وبهذا المعنى فان مقال الصائغ ليس له قيمة من زاوية النظر الاكاديمية.

اضافة الى هذا الغياب الاصطلاحي التام ، فمقال الصائغ يحوي من الاسقاطات والمغالطات التاريخية ومن الثقافوية التحقيرية ما ينفع لعمل بحث كامل عن ضحالة المستوى الفكري السائد في وسط "المثقفين المرتزقة".. وفيه بعد ذلك من الانتقائية والدسية ما يكفي لتغذية الرؤوس الاسفنجية لعقود معارك جمل قادمة.. لماذا التوقف اذا امام هكذا مقال ضحل.. اعتقد ان "قيمته" تأتي من كونه يمثل اسلوب شائع ومقرؤ جدا من قبل الرؤوس الاسفنجية.. فنحن هنا امام نموذج للاستخدام "الكيفماشائي" للماضي.. والتوقف عنده ليس مضيعة للوقت.

فحوى مقال الصائغ الكيفماشائي يمكن تلخيصها بجمل بسيطة: ان انقلاب/ ثورة تموز والغوغائية التي صاحبتها ادت الى "عسكرة الوعي الجمعي العراقي".. وتلك العسكرة قد مهدت لكل الكوارث السياسية اللاحقة.. ساترك جانبا عبارة " عسكرة الوعي الجمعي العراقي".. وسأكتفي بسؤال اطرحه وعيني على الواقع ماضيا وحاضرا: هل هناك وعي جمعي عراقي ؟؟ الطامة الكبرى في هذا المقال تكمن في مكان اخر.. فالصائغ يدين هوسة "ماركس ابو دشداشة" الغوغائية "ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة".. ولكنه بنفس الوقت يستعين بالجواهري كمعين في قراءة تاريخ تلك الفترة !! وهنا نحن امام مفارقة هائلة.

فالجواهري في قراءة الصائغ يلعب دور الحكيم والحكم ويقول ما معناه بان انحراف الثورة وغرقها في مستنقع الدم ناتج عن اعتماد عبد الكريم قاسم "على اناس غير مؤهلين".. والجواهري يقول لنا بانه عندما سمع اسماء هولاء في بداية الثورة، "قرأ الفاتحة على الجمهورية".. السؤال الان : اذا كان اولئك "الساسة" غير مؤهلين، فهل كان الجواهري "مؤهلا" انذاك !! والسؤال المكمل للسؤال الاول هو: الم يقرأ الجواهري آنذاك اشياء اخرى غير سورة الفاتحة !! قصيدة "تحرك اللحد"مثلا .. التي منها الابيات التالية :

فضيق الحبل واشدد من خناقهم    فربما كان في ارخائه ضرر
أقدِمْ فأنتَ على الإقدامِ  مُنطَبِعٌ      وأبطُشْ فأنت على التنكيل مُقتدر

هذه هي "مؤهلات" الجواهري آنذاك.. الجواهري كان "حبل ثقافي" يدعو للبطش والتنكيل بخصومه السياسيين.. اتعلم ام انت لا تعلم بان "حِبال" الضحايا فم !! قصيدة "تحرك اللحد" هذه تقول لنا ان لثقافة الحبال فم .. والجواهري كان هذا الفم .. ومن هنا فهو اخر من يحق له الحديث عن "المؤهلات".

"هل يعلم الصائغ ام هو لا يعلم" بان قصيدة الجواهري" تحرك اللحد" كانت في الاصل مدحا لمن قاموا بانقلاب ١٩٣٦ وهو الانقلاب الاول ليس فقط في العراق ولكن ايضا في كل منطقتنا.. وهل يعلم الصائغ ام هو لايعلم بان الجواهري اطلق في عام ١٩٣٦ اسم "الانقلاب" على جريدته تيمنا بـ "ام الانقلابات".. وهل يعلم الصائغ ام هو لايعلم بان الجواهري اعاد صياغة قصيدة" تحرك اللحد" في نهاية ١٩٥٩ بعد محاولة اغتيال قاسم لكي تتناسب مع اسم "الانقلابي" الجديد.. اي بعد اكثر من سنة على قيام "ثورة" ١٩٥٨.. فمتى قرأ الجواهري اذا سورة الفاتحة على "الجمهورية" ؟؟ التاريخ لا يرحم .. فالتاريخ ليس حقل مبالغات مفتوح كالقصيدة كما يعتقد الجواهري.. ولا يمكن اعادة صياغته بحسب مزاج الشاعر كلما استجد حدث! 

اذا كان الصائغ يعرف تلك التفاصيل ويعمل بمبدأ الانتقائية فتلك مصيبة.. واذا كان لا يعرفها فالمصيبة اعظم .. باختصار.. قصة قصيدة الجواهري هذه تُبيّن ضحالة وحدود القراءة "الشعرية" للتاريخ.. وهي وبخلاف ما يقوله الصائغ، تُبيّن ان مسار ثقافة الحبال والسحل والقتل والتصفيات الدموية لم يبدأ في تموز ١٩٥٨.. انقلاب ١٩٣٦ هو اسبق في تأسيس مسار"عسكرة الوعي الجمعي العراقي".. اذا جاز استخدام تلك العبارة الاخيرة.

ولكي نبقى في الاهم.. قصيدة "تحرك اللحد" يمكن تسميتها "تحرك الحبل".. لانها قصيدة مؤسسة لثقافة الحبال والسحل والتصفيات الدموية التي لم يخرج منها العراق بعد.. وهي تقول لنا ان الجواهري كان من نفس طينة "ماركس ابو دشداشة" وهوسته السيئة الصيت .. وهي تقول لنا اخيراً شيئا مهما غالبا ما يتناساه "المثقفون".. نعم، ثقافة الحبال لها ساستها وغوغاءها.. ولكن ثقافة الحبال والسحل والقتل لها ايضا شعراءها ومثقفيها وخصوصا انصاف متعلميها.

باختصار .. قراءة الصائغ "الشعرية" للتاريخ تستدعي مقولة شكسبير المأثورة : "التاريخ" هو حكايات مجانيين تروى لاغبياء !!